فبراير 05، 2013

الأزمة في تونس خــلاّ...قــــة



بما أني لم أسمع بمصطلح "الأزمة الخلاّقة" إلا في خطابٍ وُصِف بالعاجل للرّئيس التونسي المنصف المرزوقي بثتْه وسائل الإعلام مساء يوم الاثنين 4 فيفري 2013 ،فإنّ علامة تسجيل حقوقه محفوظة لفائدته إلى أن يثبُتَ خلاف ذلك...يبدو أنّ المرزوقي غلبَه صدق الحقوقيّ على كذب السّياسي فلم يجد بُدّا من الاعتراف بحقيقة الواقع المرّ الذي عليه البلاد،واقعُ الأزمة الخانقة التي تنذر بمنزلقات خطيرة سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعيّة قد تأتي على الأخضر واليابس...غير أنه،فكما للصبر حدود،فللصدق حدود وخطّ أحمر لا يتجاوزه رئيس دولةٍ حتّى إنْ ولدَتْه ثورة،لولا مقاديرها العجيبة،ما كان ليصعَدَ كرسيَّ واجهة السلطة..
  ماذا يفعل الحقوقيّ المشاغب حين يتحوّل بقدرةِ قادِرٍ إلى رئيسٍ تُوقِعُه إغراءاتُ السلطة في شراكها،فلا هو بمناضلِ الأمس  المتحرّر من قيودِ تبعات الخطاب إنجازا،ولا هو بمالكٍ لسلطاتِ مَنْ سكنوا قبله قصر قرطاج ولم يخرُجوا منه إلاّ عنوةً مكْرَهين ؟..
المنصف المرزوقي(أيّام زمان)

بين الجرأة بقوْلِ الحقيقة المُرّة التي تُمسك يدُ الشعب بجمْرِها وبين الخطاب السياسي لرئيسٍ لا يتصوَّرُ أن يكون جزءا من نارها الحارقة،فضّل الانتصار لقولِ الحقيقة المتعالية على ركوبِ كذبٍ حتّى إن استهواه ركوبه لا يجد مَنْ يُصدِّقُه...قالها بوضوحِ ما تعنيه كلمة الأزمة من اختزال غير مُخِلٍّ بتوصيف المأزق التونسي بكلِّ أبعاده وتداعياته..واعتبر الأزمة التي تعيشها البلاد وتعتصر قلوب التونسيين هي التي تحول دون استقالته من منصب الرّئاسة التشريفاتي،دون توضيحٍ لما تعنيه عدم الاستقالة من حلٍّ لذات الأزمة،بل اكتفى بتكرير أنه لن يستقيل عديد المرّات وكأنَّ اعتكافه في القصر الرّئاسي،في حدِّ ذاته(وهْو الطبيب)،الدواء الكافي الشافي لعلاج مرض الاختناق القاتل الذي أفرزتْه بيئةٌ سياسيّة مسمومة...

لكنْ هل أنّ خطابا استثنائيا عاجلا يُقرِّ بوجودِ أزمة في البلاد كفيلٌ بتفريج كُرْبة التونسيين قلقا واحتقانا وخوفا من مصيرٍ مجهولٍ؟..
يُدركُ المرزوقي،جيّدا،وهو رئيس دولةِ باكورة ثورات الرّبيع العربي أنّ وصْفَ الجمْرِ بالجمْرِ لا يحول دون الاحتراق به..كما أنه،ولعلّه يستحضر،طلبَه مُهلَة ستّة أشهرٍ فقط،في بداية عمر تقلِّدِه الرّئاسة، لتكون طريق تونس سالكة نحو تحقيق أهداف ثورتها الشعبية في كنف الوفاق والسرور،كما أوحى بذلك تصريحا لا تلميحا..لذلك تفتّقت مواهب الرّئيس على إتيانِ نظريّة جديدة تُجَمّل مفهوم الأزمة وتغطّي على بشاعتها بمسحوقٍ ابتكره للتّوّ ورغب ألاّ يحرم شعبه من حالة انبهارٍ تصرفه عن فعلٍ آثمٍ وتجعل عذاب الأزمة المُبرّح مُحَبَّبًا للنفوس بلْ شرطا ضروريّا ومطلوبا لدخول نعيم الثورة..أيْ أنَّ الابتلاءَ بالشّرِّ شَرْطَ فتْحِ أبواب جنّة الثورة ونعيمها المُؤَجَّل..
الأزمة يجب أن يسعَد بها الشعب التونسي،بل لِمَ لا يبذل قصارى جهدِه لتعميقها،ما دامت كما يراها الرّئيس خلاّقة؟.ا.يَصُحُّ البناء عليه بالقول:كلّما كانت الأزمة أكثر تعقيدا وإيلاما كانت أكثر خَلقا وإبداعا...
                                      
 إيهٍ وآهٍ لمنْ لا يفقه في علوم الأزمات.ا..،إنها "الأزمة الخلاّقة" أيها..المغفّل  الجاهل بنواميس الخلق.ا.ألم تسمَع من قبل بما يُشبه ذلك كتبشير أميركا بالفوضى الخلاّقة في الشرق الأوسط،إبّان الحرب على العراق...إنه عصر جديد للخلق لا يأتي إلاّ من رحم الأزمات والفوضى وحتّى الدّمار...
أجل إنّها حقّا أزمة،لكنّها ليست أزمة أنتجها نظام مستَبَدٌّ،كما أوضح المرزوقي،ولا يَصحّ أنْ نتعاطى مع جراح الأزمة في عهد ما بعد الثورة بنفس مشاعر الاحتجاج والرّفض والضيق...علينا أن نستعذب ألمَ "الأزمة الجديدة لأنّها خلاّقة..أكثر من استعذابها علينا أن نلتزم الهدوء ونستلهم من طقوس الشطحات الصّوفيّة ما يُرَوِّضُ نفوسها على الصّبر وحتى الزّهد في الحياة حتى لا نُفْسِدَ عن أزمتنا وقار خشوعها وهي تخلق وتبدع... 
حمادي الجبالي والمنصف المرزوقي
 بشّر المرزوقي بـنظرية"الأزمة الخلاّقة".أيْ نحن مأزومون فعلا،لكن بأزمة... "خلاّقة"..
هل أسعدكم سيادة الرّئيس بكوْن قحْطِ البيئة السياسيّة التونسيّة جعله لا يستقيل حتى تُخصِبَ من صُلبِه "الأزمة الخلاقة"...
احذروا،إنّها خـلاّقـــة وليست "خَنّاقـَــة"...
في كلّ الحالات أكّدَ أننا نعيش أزمة..الإقرار بالأزمة مِمَّنْ يسكنُه قصر قرطاج فضيلة تُحسب لفائدته ...تشبّثوا بأزمتكم،لا تفرّطوا فيها،امْنعُوا مَنْ يحرمكم من عذابها،فهي الحلّ،ولا حلَّ سواها...
تذْكرون فجر"الرّبيع التونسي" لمّا احتشدت النّخب التي التحقت بالثورة على عجل في ساحة القصبة(لا شارع الحبيب بورقيبة،أين أطاحت الثورة بنظام بن علي) ..طلبت تلك الجموع الصاخبة (تحت يافطة الشعب يريد) بوَصْفةٍ سحريّة للخلاص من متاعب الفقر والبطالة والتهميش تُسَمَّى انتخابُ مجلس تأسيسي مُمَثِّلٍ للشعب ليبيض بيْضةَ الدستور الذّهبية...لم يُسجَّلْ اعتراضٌ يحول دون إنجاز الطلب المحدّدِ بسنة وحيدة يتيمة..قد يكون ذهب باعتقاد الكثيرين أنّ الدستور تعْويذة  البَرَكة،ما إنْ يشْرَب التونسي ماءَها حتى تتبخّر كلّ عذاباته  وهواجسه...تأخّر الدستور لسوء تدبير أو تقدير،ولعلّه للسّببين معا ليُمْعِنَ في طحْن المطحونين ويُسْرِفَ في الجدل المعطّل للعمل والمراكم للعلل والمُفرِّخ للملل ...
 انصرفوا عن الدستور لمآرب شتّى آخر صيحاتها الإعلان عن"معالجة التقصير بالتحوير"... إنّه التحوير الحكومي الذي تحوّل إلى مسلسل مُمِلٍّ أضاف له رئيسنا المسكون بالقصر الرّئاسي حلقة جديدة تحت عنوان: "الأزمة الخلاّقة"...
يعلم سيادة الرّئيس أننا نعيش الأزمة ولسنا على استعداد لنسمع الحديث عنها،لذلك دعانا إلى التّلهّي بمعنى الخلق في الأزمة،خلقٌ نرجو ألاّ يفتح الشهيّة لمزيد تمطيط اللعب بالأعصاب ليجترح من هموم الشعب نظريّة "الموت الخلاّق"...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق