كتب جمعة الشاوش:
الحرمان
من مباهج الحياة ليس إلا نتيجة لغياب الحرّية وخواء البطون وثقافة القبور...
نحن،العرب،محرومون من
مباهج الحياة بهذا المعنى القرآني:" اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ"...
ذلك غير ممكن لأننا محرومون من أن نعيش عصرنا فكرا
وكرامة ورفاهة لأننا نتعامل بغباوة مع منطق حركة التاريخ ونغطّ في غيبوبة حضارية جعلتنا أشبه ما نكون بأهل
الكهف وكأنّما الزّمن توقّف حيث كنّا بناة حضارة في الوقت الذي كان علينا أن نصْحُوَ
على أننا غائبون ومغيَّبون عن ذات الفعل...
نحن لا نعيش عصرنا إلا من خلال أضغاثْ أحلامٍ،من خلال
التّوهُّمِ بأننا فاعلون فيه والحال أننا لا نملك مفاتيحه "المغناطيسية"
منذ ذلك التاريخ الذي صنعنا مدنية لم تتفتّق فيها مواهب الإنسان عن إبداع
"المفتاح المغناطيسي"..ذلك التاريخ الذي مكرنا به فانقدنا إلى أن نطبق على
أنفسنا في كهف الظّلام قرونا لتصُحَّ علينا مقولة "أهل الكهف الجدد"...
وإذا جاريْنا اليوم ادِّعاء المتفائلين منّا بأننا
استفقنا من غيبوبةِ قرونٍ خلت على وقْع"ثورات الرّبيع العربي"،فإنَّ
الخلاف لا يجب أن يتيه في التنظير للتدليل على هذه الاستفاقة من عدمها إذ هي ليست
هدفا في حدّ ذاتها،إنما الهدف فيما ستؤول إليه بدْءا باختبار القدرة على فتح
العينين على واقعٍ غير واقع الكهف،ثمّ القدرة على التكيُّف مع "العالم
الجديد" الذي لم يُشارك العرب في صياغته على النحو الذي هو عليه ولا يمتلكون
أدوات التّحكُّم في مساره بالنظر لتآكل ما كانوا قد أبدعوه وألِفوه وتطبّعوا عليه لمّا
كانوا بناة حضارة...
السؤال: هل "الرّبيع العربي" ،على أنه استفاقة
وصحوة،أشَّرللتعامل مع "العالم الجديد" بما يفرضه من ضرورات التأقلم مع
ضوابطه الإبداعية وقيمه؟..تلك القيم التي،لئن كانت لا تختلف في الجوهر مع
الموروث،فإنها تخضع لاختبار درجة الالتزام بها إلى معايير حديثة ومغايِرة تعتمد
قوانين كونية متطوِّرة غير قابلة للتأويل وفقا لمشيئة حاكمٍ مهما صبغ على نفسه من
شرعية ومشروعية...
إننا إزاء
معاودة المحاولة لاكتشاف ذواتنا ولا يكفي لذلك قراءتنا لإرثنا الحضاري مهما اتفقنا
أو اختلفنا في تقييم هذا الإرث،إنما أساسًا من خلال قراءة الحاضر بأدواتِ الآخر
المتفوّق علينا كما هو حقيقة ماثلة على أرض الواقع أحببنا أم كرهنا...
إننا أمام فرصة تاريخية قد نهدرها إذا لم نعترف بما قادنا
إليه الزّمن من انحدار جعلنا أبعد ما نكون عن ذلك الزمن الذي كنا فيه
أسيادا...
نحتاج
وعيا بفداحة الهزيمة الحضارية وبالتالي حكمة القبول بالتدرّج بثبات ودون مزيد من
الانتكاسات لغاية الانخراط في عصرنا بعد طول غيبوبة مكّنتْ من إحكام الطّوق على
رقابنا لنلعب اليوم دور المفعول به في صراعات أقوياء العالم...
العالم العربي راهنا،ليس إلا ساحة صراع بين أقوياء
تقليديين وآخرين جدد ،وقد لا تلحقه من حمى وطيسها إلا المزيد من الأذى ولا تلحقه
غنائمها بل هو غنيمتها...وما أشهاها من غنيمة دسمة بتوابل التراث العبق وسحر
الجغرافيا وثراء موارد الطبيعة ...
لا
معنى لصياغاتٍ رومنسيّة تحت مسمَّى "الرّبيع العربي" لتُخصب صحراؤنا ما
يُجسّد أحلامنا التي هي أكبر من أن يتّسع لها عالم لا يقيس قيمة الشعوب بحجم أحلامها
إنما بتوفّقها إلى أن تحلم أحلاما قابلة للإنجاز ومؤشَّرٌ عليها من أخرى تملك حقّ
مصادرة حتى الأحلام التي لا تتناغم وذوقها وكذلك مصالحها...
ما
الحلّ إذن ؟
تبدأ خطوة الألف ميل بمواجهة واقعنا المرير بعقلانية
وحسن تدبير...
لقد كان بإمكاننا قطع تلك الخطوة منذ أمدٍ طويل لو لم
نركب الأوهام ونرفع رايات النصر على أطلال أمجادنا الغابرة دون أن نضيف ما يُمكّنها
من رفع قامتها في زمن غير زمانها بسبب تسليم أمرنا لقياداتٍ حوّلناها،في غفلة منّا،
إلى آلهة مستبدّة تجلدنا لتعيق الشغف
بالحرّية وتدفع بنا إلى عبوديّة مُذلّة أو إلى أشكال تمرّدٍ انتحارية أتقنّا
الكثير من فنونها بما فيها تفخيخ الأجساد بالأحزمة الناسفة بدعوى الاستشهاد...
كانت تلك الخطوة ضرورية ومتاحة زمن الحرب الباردة لو
اخترنا الواقعية الصينية أو ما شابهها لدى شعوب أخرى استوعبت الدّرس فانكفأت على
نفسها تبني في صمت ودون ضجيج ولا مكابرة أو استعراض عضلات...
أيْ نعم،كانت تلك الخطوة ممكنة لو لم نقحم بأنفسنا في
معارك لا حول ولا قوّة لنا بها تلهب حماسا
طفوليا بلا تحسُّبٍ للفخاخ التي تتربّص بنا لتعقبها الهزائم النكراء...
ثمّة اليوم ما يُبرّر الحديث عن "ربيع عربي"
لمجرّد تمكّن الشعوب في تونس ومصر وليبيا واليمن من الإطاحة بأصنامها التي استعبدتها
لعقود ثقيلة...على أنّ ذات الرّبيع لا يجب أن يتحوّل إلى انقلاب على الحكم بإخراج
جديد في الشكل دون أن يختلف في المضمون بما يعني الاستمرار في تأمين التداول على
السلطة بآلية الإكراه والقوّة بدءا بعهد الخلفاء الراشدين ووصولا إلى الانقلابات
العسكرية التي أطاحت بالاستبداد لتعيد إنتاجه...
يجب أن توضَع آليات صلبة وناجعة لتداول سلمي وسلس على السلطة
يعتمد تجسيم إرادة الشعوب العربية بنفس تلك الآليات التي جُرِّبَت فصَحّت لدى
الدُّولِ التي حلّلْنا التهافت على استهلاك بضائعها المصنّعة وحرَّمْنا على أنفسنا
ديمقراطيّتها...يجب أن نحسم بوضوح لفائدة الخيار الديمقراطي وأن نعتبره شرط القطع
مع قصور
فادح عن إدراك نواميس الكون وحركة التاريخ ...ثمّ لِنترك أوهامنا وحتى أحلامنا
جانبا ونحن نقف على فداحة تخلّفنا إزاء الآخر المهيمِن بما امتلكه من أسباب
التقدّم...لِنثابرْ،بهدوءٍ وتواضع،على امتلاك أسباب نهضته التي تقوم،بالأساس،على
المعرفة والحرية وكرامة الإنسان...وهي ذات القيم التي أقامت صرح أمجادنا الغابرة
وإن تغيّرت اليوم مفاتيح الولوج إلى نعيمها،وهي مفاتيح لم يحصل لنا شرف إبداعها...
المطلوب اليوم أن نحذق استعمال تلك المفاتيح حتى نتمكّن من الانخراط في عصرنا ثمّ
تأتي مرحلة الإضافة والإثراء...ليس ثمّة من سبيل آخر للخروج من ظلام الكهف...
لا
يكفي أن نستنجد بالخيمة والناقة لنتمكّن من التحليق على ظهر طائرة ليست مصنوعة من
وبر الإبل ولا تعتمد حليب الناقة في أيِّ مكوِّنٍ من مكوِّناتها ولا حتى في تركيبة
وقودها...لا يكفي أن ندّعيَ "الإسلام هو الحل" فنقنع بالابتهال
والتضرُّع انخراطا في ثواب الآخرة بعقلية تهمِل تغيير ما بأنفسنا وبحقّ الإسلام
علينا في التفوّق ( "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ
مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ"..."وقُلْ ربِّي
زِدْنِي علما"...)