يوليو 10، 2011

أحكام الواقع وسقف التطلعات



 مَنْ زلزَل الأرض تحت أقدام الأنظمة العربية ولأيّ غاية ؟
"الكبتُ يُولّد الانفجار" قاعدة يصُحُّ أن تُفسّر ما حدث ويحدث الآن في العالم العربي:شعوب نفذ صبرها على تحمّل ما لا يُحتَمل فثارت على أنظمة حكمها الوضيعة والمتآمرة عليها ثمّ استنجدت بنخبها السياسية والفكرية من أجل ترجمة تطلّعاتها في مشروع يقودها إلى شاطئ النجاة حيث الشعور بالكرامة الإنسانيّة بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ماذا فعلت النخب أو هي بصدد فعله ؟
يبدو أنها تعيد إنتاج القديم بنفس العقلية التي أفرزت الماضي الذي تسبّبت في إجهاض كلّ مشاريع النهضة،منذ الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية إلى اليوم،أيْ الجنوح إلى خطاب رومانسي/عاطفي/نرجسي/إقصائي/غوغائي/تسلّطيّ مسقط يُهمل،عن قصد،ضرورة كبح جماح اندفاعه بالاستناد إلى النهج العقلاني/الواقعي (البراجماتي) وبفضائل القيم التي تفضي إلى الوفاق الوطني وتجسّم سلطة الشعب والحقّ في المواطنة بما تعني،فيما تعنيه،أنّ ادّعاء العمل من أجل تحقيق الآجل المنشود لا يجب أن يكسب شرعيّته إلا بقدر انسجامه مع الاستجابة إلى العاجل الملحّ  كما يجب أن يستجيب للمواطن السّيّد في وطنه وكما يفرضه الواقع المحلي المتداخل مع الإقليمي والعالمي تداخلا شديد الالتباس والتعقيد لا يحتمل التجاهل أو القفز عليه...
كلّ المشاريع النهضوية العربية التي بشّرت بالحلول لمعضلة التخلّف الحضاري أخفقت وخلّفت المرارة والإحباط سواء تلك التي أنتجت القومية العربية الناصرية والبعثية  و"العلمية" أو الأخرى التي انبهرت بالنموذج الغربي الحضاري(بغربيّه وشرقيّه المنهار) وانتقت منه بهرجه ومساحيقه أو الثالثة التي تحصّنت بالإرث الإسلامي في قراءة سلفيّة منغلقة منفصلة عن تمثّل تحديات الراهن ومقتضيات التطور ...
وحيث أنّ العبرة بالنتائج،فإنّ النّخب التي تتحكّم في مصير "الربيع العربي" اليوم ليست سوى قوى ضغط فرضت منطق الأمر الواقع بعد أن تشكّلت من أولئك الذين يُحسنون فنون التسلق السريع ليتصدّروا مشهد ذات "الرّبيع"،بصرف النّظر عن جدارتهم من عدمها لتبوّء الموقع القيادي .أولئك الذين يتّصف أغلبهم بحوز موهبة الانتهازيين وجرأتهم في ركوب الأحداث،أولئك الذين استطاعوا أن يسبقوا غيرهم إلى إعلان زواجهم من الثورة العربية،في غفلة ممّن صنعوها حدثا تاريخيا راقيا...إنها زيجة قد تعني ما يعنيه المثل القائل:"فاز باللذّة الجسور"، غير أنّها لذّةٌ،إن كان للجسور الحقّ في نيلها،فإنّ إخصابها يشترط ما ينفع الناس وإلا كانت اغتصابا يُكرّس القمع والمهانة.
 الحَلّ يكمن،أساسا، في مدى قدرة هذه النّخب على:
- التّداوي الأكيد والعاجل من معاناتها القمع حتى لا تكون قامعة تُعيد إنتاج ذات الاضطهاد الذي اكتوت بعذابه.
- أن تقرأ،جيّدا،دواعي ثورة شعوبها المفاجئة التي استهدفت أنظمة حكم عمّرت طويلا (مصر،تونس،ليبيا،اليمن) وشاخت رموزها ونخرها فسادها واستبدادها،في ضوء أزمة اقتصادية عالميّة خانقة ونظام عالمي استوفى أغراضه وتحتّم تطويره أو تجديد ملامحه أو تغييره مرورا بتحريك المياه الراكدة في العالم العربي ودول جواره.
- الامتناع عن الوعد بجنّة مؤجّلة لا تملك ذات النخب مفاتيحها والتعامل مع الواقع كما هو دون تزييفه أو تحريفه بما يُغازل العواطف والأهواء فيطرح معالجات مغلوطة لا تتحرّك في دائرة مجابهة الواقع كما هو.
- التعاطي مع القوى المهيمنة على العالم وفق واقعية مساعدة على تفادي المخاطر وذات ديناميكيّة قادرة على تعزيز المكاسب وتطويرها،بعيدا عن الخطاب العدائي الملتهب  الذي أضرّ بالمصالح العربية وجيّش شعوبها ضدّ المتفوّق المهيمن الذي افترضنا أنه لن يكون إلا عدوّا وجبت محاربته،والحال أننا لم نواجهه طيلة زمن تخلّفنا المديد إلاّ بالخطب النارية التي لا تُغني ولا تسمن ولا تخيف ولا تردع وبتكديس أسلحة نستوردها منه ولا نحسن استعمالها إلا ضدّ بعضنا البعض.
تلك شروط ضرورية مبسّطة وواقعية تسهم إلى حدّ كبير في التأسيس لمشروع مغاير لتلك الأطروحات التي كرّست استفحال العجز والتخلف في الجسم العربي.رسالة الشعوب العربية من خلال ثوراتها ليست مشفّرة ولا تحتاج إلى تنظير ولا إلى قرّاء كفّ لفكّ طلاسمها،هي غير متعلّقة "بما وراء العرش" ولا تطلب مستحيلا،تريد وطنا ينتج مواطنوه خيراته وينعمون بثمارها،تريد وطنا لا يضطرّ شبابه للفرار منه على قوارب الموت حيث مرارة الغربة والتيه والضياع،تريد خبزا وحرّيّة...رسالة لا تهتمّ بشعارات القوميين ولا الليبراليين ولا اللائكيين ولا الإسلاميين،وترفض تجزئة الوطن وفق تصنيفِ مذهبي أو طائفي وتنحاز لأيّ مسعى يُثبت أنّ الوطن لكلّ أبنائه دون إقصاء أو تطاحن أو حقد،إنها إيديولوجيّة الوطن للجميع لا يدّعي طرف أنه يحتكر الحقيقة ويُصادر حقّ الآخر في الوجود...
لا بديل عن الديمقراطيّة فلا غنى عنها وهي الحلّ وهي قابلة لتلبس أيَّ فكر غير إقصائي أو تخويني أو تكفيري،بل إنها تشترط القدرة على التعايش والتفاعل بين الفرقاء،دون إيحاءٍ بالمَنّ أو الفضل من طرف على آخر مهما كانت وجاهته الفكرية واالسلوكيّة...
الثورات العربية جاءت من رحم المعاناة لا من تطويحات النظريات الحالمة،هي لا تحتمل الجدل حول تنظير يعيد إنتاج مشهد الأمس البغيض،هي ترفض أن تكون ثوبا عصريا يلبسه فكر نخبة أسيرة لنرجسيّتها وأطماعها وعللها...ثمّ هي ثمرة احتجاج على استبداد تآكل من الدّاخل ونتيجة لوضعٍ عالميٍّ يتشكّل من جديد يهمُّنا منه اقتناص الفرصة التاريخية التي نستفيد منها ونُحوّلها لصالحنا دون استفزازٍ للآخر أو دفعه على غرس مخالبه من جديد في أجسامنا المنهكة...
على النخب العربية التي ركبت ثورة شعوبها ألا تفوّت فرصة تاريخيّة عليها،وألاّ تسيء القراءة والتقدير...على عاتقها تقع مسؤوليّة الحذر من الوقوع في المحظور الذي طوّح بها ماضيا خارج سكة البناء الحضاري وألقى بها متسكّعة على هامشه فبقيت شعوبها تندب حظّها البائس في زمن لا يرحم المغفَّلين والموتورين والمرضى بجنون العظمة...