نوفمبر 06، 2012

تونس.. إلى أين؟


د.سهيل الغنوشي(Dr. Souhei
تونس.. إلى أين؟
إن نجاح الثورات ونهوض الأمم يقتضي التحاما بين شعب معبأ حول مشروع وطني طموح وملهم، وقيادة وطنية متجردة ومتواضعة ومتوافقة حكيمة حريصة على شعبها، تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار. تلك شروط لا غنى عنها إذا أريد للشعب أن يصبر على آلام العلاج ويتحمل فاتورة التحرر والنهوض، وإذا أريد للبلاد أن تتصدى للأطماع والتعويق والمؤامرات.

كادت تونس أن تستوفي تلك الشروط مرتين: يوم انتصار الثورة، ويوم نجاح الانتخابات. ولكن الفرصتين ضاعتا بصورة غريبة. ثم أتت بعد ذلك سنة هزيلة للنسيان، عناوينها الأبرز التخبط والمراوحة والمكابرة والمزايدة، ضاعت خلالها أهداف الثورة وهموم المواطن (أو أصبحت ديباجة خطابية ومادة للمزايدة والدعاية الانتخابية في خضم صراع محموم وعبثي على السلطة بين أطراف منتشية وحالمة وأخرى مغتاظة ومتحاملة، جعجعة كثيرة من دون طحن، وسجالات سياسية وإعلامية تنمّ عن تنطّع وتفيْقُه ومراهقة سياسية، ولا تختلف كثيرا عن سجالات جماهير الملاعب، فتبخرت الأحلام والآمال والوعود الكبيرة، أو تقزّمت فأصبحت لا تتجاوز عودة الأمن والاستقرار.

"
هناك من تغيرت أوضاعه جذريا بفعل الثورة إيجابا أو سلبا، فانشغلوا بمكاسبهم ومعاركهم وما عادوا يرون إلا نصف الكأس، ولكن الغالبية العظمى من التونسيين لم تتغير أوضاعهم كثيرا
"
قطعا هناك من تغيرت أوضاعه جذريا بفعل الثورة إيجابا أو سلبا، فانشغلوا بمكاسبهم ومعاركهم وما عادوا يرون إلا نصف الكأس، ولكن الغالبية العظمى من التونسيين لم تتغير أوضاعهم كثيرا ولم يلحظوا فرقا كبيرا في الحياة السياسية سوى أن أمر الحكم كان محسوما لصالح طرف فأصبح متنازعا عليه، وقد لا يطول الأمد قبل أن يحسم من جديد.

ولم يجن التونسيون في مقابل الشهداء والجرحى وفقدان الأمن والاستقرار سوى حرية التنفيس وحق اللغو السياسي، وهو ما كان متوفرا نسبيا في دكتاتورية مبارك وصالح، ولا يزال متوفرا في ديمقراطية بوتين. وحتى هامش الحرية هذا لا يحق لأحد أن يمنّ به على الشعب الذي انتزعه بنفسه، ومن حقه أن يمنّ على النخب أن أنقذها من التهميش.

كل ذلك قد يصبر عليه المواطن ويأمل في تجاوزه لو كان للبلاد والثورة قيادة حازمة ومسار واضح، وهنا يكمن جوهر المشكلة، فالبلاد تراوح مكانها، ولا مفر من مواجهة الحقائق والتوقف عن التبريرات الواهية والمعيبة، فالوقت جزء من العلاج إذا كانت البلاد تسير بالاتجاه الصحيح، وثورة تونس ورثت تركة أخفّ وتواجه تحديات داخلية وخارجية أقلّ من نظيراتها، وتوفرت لها كل أسباب النجاح وهي بحاجة إلى "معجزة" لتفشل.

فمتى ولماذا وكيف خرجت الثورة عن مسارها؟ وما السبيل لتصحيح المسار قبل فوات الأوان؟ تلك هي الأسئلة التي ينبغي أن يتمحور حولها الحديث في السياسة وإلا أصبح لغوا كحديث الكرة.

في تقديري فإن السبب الرئيسي في المأزق السياسي في تونس هو تعجّل الأحزاب في الصراع على السلطة قبل نهاية المرحلة الانتقالية ومن دون ضوابط، والمنعرج الحاسم الذي أضعف فرص الثورة في النجاح كان تشكيل الحكومة (بالطريقة التي تشكلت بها، حكومة سياسية وحزبية لتصريف الأعمال خلال المرحلة الانتقالية، وما عدا ذلك أعراض ونتائج وتفاصيل ثانوية.

فتونس ليست دولة ديمقراطية حتى تتمسك الأحزاب حرفيا بالآليات الديمقراطية ومنطق الأغلبية والأقلية. والمرحلة الانتقالية ليست مرحلة تنافس على السلطة ولا حتى تعامل مع التركة (ولا تتحمل منطق الغالب والمغلوب، بل هي مرحلة بناء منظومة سياسية جديدة تحصر الخلاف وتضبط المنافسة ويستوعب فيها كل ما هو قابل للإصلاح، وبالتالي فهي بحاجة إلى توافق يقتضي تنازلات ويحقق الأمن والاستقرار، والتحام بالشعب يقتضي شفافية ويحافظ على الزخم الثوري من أجل حسم الإستراتيجيات الكبرى والقضايا السيادية التي لا يصح فيها الخلاف، وتقوية الجبهة الوطنية وتحصينها ضد التآمر الداخلي والخارجي، وبناء مؤسسات حكم حيادية وطنية ومستقلة عن الأحزاب تتنافس الأحزاب لاحقا وتداول على إدارتها بتفويض شعبي مؤقت، وذلك جوهر الديمقراطية.

كما أن استباحة كل الوسائل للوصول إلى الحكم أو للاستمرار فيه وتوحّد حزب مع الدولة هو جوهر الدكتاتورية التي عبر عنها لويس الرابع عشر بعبارته الشهيرة "الدولة هي أنا".