كتبهـا : جمعة الشاوش |
تتكثف
الجهود لعقد قمة القادة العرب في بغداد أواخر الشهر الجاري في أجواء يمكن
توصيفها بالاستثنائية بسبب حالة المخاض التي تعيش على إرهاصاتها الشعوب
العربية منذ أن أخذت بزمام المبادرة لتحريك المياه الراكدة والتحليق في تلك الأجواء الشذيّة بعطر الحرية والكرامة الإنسانية والتي ظلت لزمن طويل محظورة عن المواطن العربي ...
بغداد تبدو حريصة على أن يستعجل العرب نصب خيمتهم على ضفاف دجلة والفرات،بعد أن هجروها وانشغلوا عنها بما تعوّد قادتهم على أن ينشغلوا به- وما يزالون- من عشق لكرسيّ سلطة قُدّ من استعبادِ شعوبهم وانكسارها وهزائمها...غير أنّ بغداد اليوم هي غير بغداد الأمس،كما أنّ المزاج العربي،قادة وشعوبا،هو غير ذلك المزاج الذي كان عليه منذ أشهر مضت قبل أن تجرؤ العامّة على عصيان تعاليم قادتها ونخبها وتفجّر كبتها وحرمانها "ربيعا عربيا"...
القضايا التي تشغل الأمة العربية عديدة وشائكة ومتشعبة منها المزمن المتجدد
كالقضية الفلسطينية ومنها المستجدّ الحارق كالوضع المتفجر في سوريا بكل
أبعاده ودلالا ته...غير أنّ اللافت في التعاطي مع الهموم العربية في قمة
بغداد،إن قُدِّر لها أن تنعقد في الموعد المُعلن،أنّها توقيتا تزامنت مع
الرّبيع فصلا ومع الرّبيع دلالة سياسية وحضارية أريد له أن تعنيه الثورات
العربية التي أطاحت إلى حدّ الآن برموز الأنظمة المستبدة في تونس ومصر
وليبيا واليمن،وقبل هذا فإنّ الحضن الحاضن لهذه القمة هو العراق،بما هو
عليه،اليوم،من مخاض عسير استمرّ لما يربو عن عقدين عاش عقده الثاني الحالي
دمويا على وقع تداعيات ثورته التي أطاحت بصدام حسين...
ومع أنّ الواقع العربي الراهن مغاير بقدر كبير لما كان عليه في السنة الماضية 2011،فإنّه ظلّ وفيا لنفس التقاليد التي درجت عليها جامعة الدول العربية في تنظيم مؤتمرات قمتها شكلا ومضمونا:
- من حيث الشكل الجامعة هي ذات الجامعة التي كانت قد أودعت رئاسة قمتها
للعقيد معمر القذافي ذات ربيع سنة 2010 تكريما له بتأبينه حيا قبل قتله
والإطاحة بحكمه المديد...تغيّر أمينها العام من المصري عمرو موسى إلى
المصري نبيل العربي وبقيت دار لقمان على حالها تتعامل وفق أطر وتنظيمات
تعترف بالأنظمة الحاكمة ولا تعترف بشعوبها...
- من حيث المحتوى تداوم على ضبط جدول أعمال لا علاقة له بالهمّ العربي إلا من خلال إخضاعه لما هو مسطّر من أجندات خفية لحكام يحكمون بإرادة غير إرادة شعوبهم... ولئن أقررنا بأنّ الإرادة العربية لا يمكن لها أن تحلّق بعيدا خارج فضاء ضغوطات الهيمنة العالمية كما تمليها مصالح الدول العظمى،فإنّ المطلوب ليس المواجهة لهذه الضغوطات بقدر ما هو البحث في إطارها عن الفرص المتاحة لتعزيز حظوظ اتساقها مع مصالح الشعوب العربية وتطلعاتها.غير أنّ المعضلة ليست في الضغوطات الخارجية،على خطورتها،بقدر ما هي في تباين المصالح بين الأنظمة العربية الحاكمة وشعوبها،إلى حدّ التناقض،في التعاطي مع الإملاءات الخارجية...الحكّام العرب يريدون ضمانات خارجية للاستمرار في الحكم،ولا شيء آخر سوى الاستمرار في الحكم،وشعوبهم تريد امتلاك إرادتها الحرّة دون أن يترتّب عن ذلك، بالضرورة،إلحاق أذى بمصالح الآخر المتفوِّق حضاريا،إنها تريد إرادة حرّة لغاية التدرّج نحو التفوّق وهي تنعم بمباهج الحياة كسائر خلق الناس في الكون الذين يتمتعون بالكرامة الانسانية... سنة 2004 احتضنت تونس قمة جامعة الدول العربية تحت عنوان "الإصلاح السياسي"،وكان المطلوب من هذه القمة أن تستجيب لضغط أمريكي وغربي اقتنع بضرورة تنفيس الكبت الذي عليه الشعوب العربية بتمكينها من جرعة ديمقراطية لازمة وباتت متأكدة لتأمين الاستقرار في المنطقة والحيلولة دون انفجار شعبي عربي تتأذى منه أميركا وحلفاؤها باعتبارها حليفة أنظمة الاستبداد العربي وبالتالي عدوّة للشعوب العربية التواقة للحرية والعدل والكرامة...إلا أنّ ذات القمة سجلت امتعاضها مما اعتبرته تدخلا في الشأن الداخلي الذي ارتأت أنه لا يتسع لقيم "الديمقراطية الغربية"،مكتفية،عن مضض،ببيان للنوايا الطيبة تطميني للداخل والخارج،تتعهّد في ديباجته بالسير على طريق الإصلاح السياسي،وفق رؤية ضبابية،بنية التمويه في التعاطي الإيجابي مع الضغوطات الخارجية التي،هي في،في جوهرها،تتقاطع ولا تتناقض،مع إرادة الجماهير العربية العريضة التي تنشد التغيير والإصلاح...
أما اليوم والحال على ما هو عليه من تداعيات "الفوضى الخلاقة" التي تندفع
إليها الشعوب العربية بشراسة وحماسة،فإنّ القمّة العربية التي من المنتظر
أن يستضيفها العراق بتجربته الحديثة الحرجة،لا تؤشّر لغير فرصة جديدة مجهضة
لتلك القمم العربية التي تعودنا على سباحتها ضدّ التيار،دون الوعي
بالكارثة التي تتربص بالعالم العربي إن لم يقدر قادته على الارتقاء
إلى ما تمليه اللحظة التاريخية الفارقة التي نحن بصددها بعد أن غيّبت
الثورات العربية رموزا كانوا يؤثثون المشهد الدرامي بغير المألوف في قاموس
الخطب السياسية أمثال القذافي(مهرّج سرك القمم العربية الرتيبة)، وصعّدت رموزا جديدة جاءت بها الثورات
العربية على عجل،ما نزال لا ندري مدى قدرتها على الإضافة والتغيير نحو
الكفّ عن "التلاسن الزعماتي" وصراع الديكة،على الأقل...
ماذا لو طرحنا السؤال التالي على العامة من العرب:ماذا تنتظر من قمّة بغداد ؟
أحسب أنّ الإجابة ستكون من الأغلبية المنهكَة مذهلة بعدم السماع أو الاهتمام بانعقاد هذه القمة،ومن أقلّيّة لا تزال تتمعّش من "الترف الفكري" وتراث "المعلّقات السبع" بالتبشير أنها ستكون قمّة ربيعية بامتياز...
لعلّه من المفيد
التذكير بأنّ قمّة عربية يتيمة كان مبرمجا لها أن تعقد لأول مرّة تحت
عنوان"قمة الثقافة" لسنة 2011 لم تعقد بسبب سبق الشعوب إلى تدشين هذه القمة
على مزاجها بمهرجانات الانتفاضات الشعبية التي تطرح اليوم بإلحاح خارطة
طريق لثورة ثقافية عربية ذات مضامين حضارية راقية تتيح القدرة على إثراء
المدنية الحديثة بمنتوج له نكهته العربية إبداعا وتفوقا...الحاجة ملحة ومستعجلة لثورة ثقافية عربية تغيّر ما بالنفس ببناء العقل العربي الجديد القادر على نسف دهاليز ظلماته...
|
نافذة تحاول الإطلالة على العالم العربي من خلال مشروع نهضته وعلاقته بالآخر،تُطلّ على الأحداث بعين ليست بالضّرورة ترى المشهد كما يراه غيرها،فهي محكومة بمعايير جمالية للكون قد لا تتّفق في تفاصيلها مع ما يراه الآخر...
مارس 07، 2012
بغـــداد على وقع قمّــة الرّبيــع...
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق